فصل: الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ: فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الِاسْتِهْزَاءُ بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالسُّخْرِيَةُ مِنْهُمْ وَوَصْفُهُمْ بِالسِّحْرِ:
اقْرَأْ فِي مَسْأَلَةِ السِّحْرِ الْآيَةَ السَّابِعَةَ، وَفِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْحَقِّ وَمَا أَنْذَرُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ الثَّامِنَةَ وَكِلَاهُمَا فِي قَوْمِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَفِي السُّخْرِيَةِ الْآيَةَ (38) فِي قَوْمِ نُوحٍ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَتَقَدَّمَتِ الشَّوَاهِدُ فِي صِفَةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمَغْرُورِينَ بِزَعَامَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ وَإِتْرَافِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِلضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي الْمَسَائِلِ (11- 14) وَهَذَا نَوْعٌ مِنْهُ فَلَا نُطِيلُ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فِي عَصْرِنَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْتِقَادُ بَعْضِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِنَفْسِهَا:
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ غَرِيزَةَ الشُّعُورِ بِوُجُودِ إِلَهٍ لِلْخَلْقِ هُوَ مَصْدَرٌ غَيْبِيٌّ لِلنَّفْعِ وَالضَّرِّ بِذَاتِهِ هِيَ أَصْلُ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَأَنَّ الْعِبَادَةَ الْفِطْرِيَّةَ هِيَ التَّقَرُّبُ إِلَى الْمَعْبُودِ النَّافِعِ الضَّارِّ بِقُدْرَتِهِ الذَّاتِيَّةِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ، وَأَنَّ سَبَبَ الشِّرْكِ تَوَهُّمُ أَنَّ بَعْضَ مَا فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ بِذَاتِهِ أَوْ بِوَسَاطَتِهِ عِنْدَ الرَّبِّ ذِي الْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ. فَالشِّرْكُ دَرَكَتَانِ إِحْدَاهُمَا أَسْفَلُ مِنَ الْأُخْرَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْمَ هُودٍ كَانُوا فِي الدَّرَكَةِ السُّفْلَى إِذْ قَالُوا لَهُ: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} 54 وَأَمَّا قَوْمُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَقَدِ ارْتَقَوْا عَنْ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ السُّفْلَى، إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَكِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى يَقُولُونَ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} 39: 3 وَتَجِدُ أَمْثَالًا لِلْفَرِيقَيْنِ فِي مُدَّعِي الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ فِي كُلِّ مَنْ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِخُرَافَتِهِمْ وَتَصَرُّفِ أَوْلِيَائِهِمْ فِي الْعَالَمِ: إِنَّ الْوَلِيَّ تَصَرَّفَ فِيهِ أَوْ عَطَبَهُ، (وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ وَالْكَلَامَ فِي التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ).
كُلُّ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَالْمَخَازِي الْمُبَيَّنَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَ عَشْرَةَ هِيَ مِنْ فَسَادِ الْعَقَائِدِ وَصِفَاتِ النَّفْسِ الْبَاطِنَةِ، وَأَمَّا الرَّذَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي اشْتَهَرَ بِهَا أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ فَأَجْمَعُهَا لِلْفَسَادِ إِسْرَافُ بَعْضِهِمْ فِي الشَّهْوَةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَإِسْرَافُ آخَرِينَ فِي الطَّمَعِ الْمَالِيِّ، وَتَجِدُ فِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا الْمَسْأَلَتَيْنِ 18 و19.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ شَهْوَةِ اللِّوَاطِ وَإِعْلَانُ الْمُنْكَرَاتِ:
وَهِيَ مَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ لُوطٍ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْآيَاتُ 77 وَمَا بَعْدَهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا مَخَازِيهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِبَاحَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ:
وَهُوَ مَا حَكَاهُ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَبَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ، وَالْعُثُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِحُرِّيَّةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْآيَاتِ 84- 88.
الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ:
الطُّغْيَانُ تَجَاوُزُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ، وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ ظُلْمٌ، وَهُمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الرَّذَائِلِ، فَاجْتِنَابُهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَتِمُّ الِاسْتِقَامَةُ بِدُونِهَا، وَلِذَلِكَ عَطَفَ النَّهْيَ عَنْهُمَا عَلَى الْأَمْرِ بِهَا بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 112 و113 إِلَخْ، وَقَدْ أَطَلْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَأَوْرَدْنَا فِيهِ أَقْوَالَ أَشْهَرِ الْمُفَسِّرِينَ فَرَاجِعْهُ فِي ص 140- 153 مِنْ هَذَا الْجُزْءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الظُّلْمُ:
جَرِيمَةُ الظُّلْمِ أُمُّ الرَّذَائِلِ كُلِّهَا، لِأَنَّهَا تَشْمَلُ ظُلْمَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ بَدَنًا وَعَقْلًا وَدِينًا وَدُنْيَا، وَظُلْمُهُ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَةً وَأُمَّةً، فَكُلُّ مَا سَبَقَ مِنَ الرَّذَائِلِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَاهَا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ إِهْلَاكَ أُولَئِكَ الْقُرُونِ عِقَابًا عَلَى الظُّلْمِ، وَتَرَى بَيَانَ هَذَا فِي آخِرِ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ مِنَ الرَّذَائِلِ يَدْخُلُ فِي بَابِ قِسْمِ الْمُحْرِمَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الرُّكْنِ الْعَمَلِيِّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ الْمُسْتَلْزِمُ لِتَرْكِ أَضْدَادِهَا، وَأَمَّا قِسْمُ الْمَأْمُورَاتِ فَهُوَ مَا نَرَاهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ:

.الْفَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ: فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ:

قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ فِي دَعْوَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَالتَّثْبِيتِ عَلَيْهَا بِقِصَصِ أَشْهَرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا مَعَ أَقْوَامِهِمْ، مِمَّا يَفْهَمُهُ مُشْرِكُو قَوْمِهِ وَتَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ مَوْضُوعُهَا بَيَانَ تَفْصِيلِ الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوَجَّهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا يَخُصُّهُمْ مِنْهَا- عَلَى قِلَّتِهِ- كَثِيرٌ فِي مَعْنَاهُ وَفَائِدَتِهِ، وَلَهُمْ مِنَ الذِّكْرَى وَمَا يَجِبُ التَّأَسِّي بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ غَيْرَ مَا خَصَّهُمُ اللهُ مِنَ الْوَحْيِ وَالْعِصْمَةِ، مَا يَكْفِي الْمُتَدَبِّرِينَ لَهُ الْمُتْعَبِرِينَ بِهِ فِي تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَجَعْلِهِمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ وَإِرْشَادِهِ عِبَادَهُ، فَالْفَضَائِلُ فِيهَا قِسْمَانِ، نَسْرُدُ لِقَارِئِي هَذَا التَّفْسِيرِ مَا فَهِمْنَاهُ مِنْ مَسَائِلِهِمَا وَالشَّوَاهِدَ عَلَيْهَا جَمِيعًا وَهِيَ إِحْدَى وَعِشْرُونَ أَيْضًا.
الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ: اسْتِغْفَارُ الرَّبِّ، وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ:
هَاتَانِ فَضِيلَتَانِ، فَرِيضَتَانِ، مُتَلَازِمَتَانِ فَكَأَنَّهُمَا وَاحِدَةٌ، جَاءَ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، عَقِبَ النَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ دَعْوَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم ثُمَّ كُرِّرَ فِي دَعْوَةِ غَيْرِهِ فِي الْآيَاتِ (52 )61 و90 فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ أَمْرًا عَامًّا عَلَى أَلْسِنَةِ سَائِرِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَنَذْكُرُ فَائِدَتَهُمَا الْعُمْرَانِيَّ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ مِنْ هَذِهِ الْخُلَاصَةِ.
الثَّالِثَةُ: الصَّبْرُ:
ذُكِرَ الصَّبْرُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أُعِيدَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَهُ: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 49 ثُمَّ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 115} فَالصَّبْرُ هُوَ الْخُلُقُ الَّذِي يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ.
الرَّابِعَةُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُطْلَقُ:
ذُكِرَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ مَعَ الصَّبْرِ فِي آيَتِهِ الْأُولَى (11)، ثُمَّ ذُكِرَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَةِ (23) وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إِجْمَالِ الْبَابِ، وَفِي مَعْنَاهُ إِحْسَانُ الْعَمَلِ فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي ابْتِلَاءِ الْبَشَرِ.
الْخَامِسَةُ: الْإِخْبَاتُ إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ:
ذُكِرَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي آيَتِهِ الثَّانِيَةِ (23) وَيَا لَهَا مِنْ فَضِيلَةٍ تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْفُرْقَانِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي (ص 49).
السَّادِسَةُ: الِاسْتِقَامَةُ كَمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى:
أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ بِقَوْلِهِ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} 112 فَجَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ بَعْدَ قِصَصِ الرُّسُلِ فَذْلَكَةً لِفَوَائِدِهَا، وَأَشْرَكَ مَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا (فِي مَوْضِعِهِ بِهَذَا الْجُزْءِ) وَمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهَا.
السَّابِعَةُ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ:
جَاءَ الْأَمْرُ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْإِقَامَةِ لِلصَّلَاةِ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ وَالْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ، وَعَلَّلَهُ بِالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ فِي تَكْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لِلسَّيِّئَاتِ، وَأَعْظَمُ الْحَسَنَاتِ الرُّوحِيَّةِ إِقَامَةُ الصَّلَوَاتِ، إِرْشَادًا لِأُمَّتِهِ إِلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَطْهِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، فِي أَثَرِ كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِمَّا يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا.
فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَحْقِيقَ مَعْنَى هَذَا التَّطْهِيرِ فِيهِ بِمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّفْسِ.
الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَيَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاحِ فِيهَا وَهُمَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ:
بَعْدَ أَنْ بَيْنَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ كُتُبِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مَا يُكَفِّرُ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَادًا، وَهُوَ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو أَثَرَهَا السَّيِّئَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، بَيَّنَ لَهُمْ مَا هُوَ مَنْجَاةٌ لِلْأُمَّةِ وَالشَّعْبِ مِنَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ وُجُودُ طَائِفَةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ فِيهَا تَنْهَاهَا عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ بِارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} 116 وَبَيَّنَ لَنَا عَقِبَ هَذَا فِي الْآيَةِ أَنَّ الْقُرُونَ الَّتِي أَهْلَكَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَاهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ، وَأَنَّ الْجُمْهُورَ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِلْإِتْرَافِ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ وَالْإِفْسَادِ، فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ سِيَاجُ الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ.
وَصَرَّحَ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا (117) بِأَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْأُمَمِ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُ الْقُرَى {بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فِي الْأَرْضِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأُمَمِ بـ الْقُرَى وَهِيَ عَوَاصِمُ مُلْكِهَا؛ لِأَنَّهَا مَأْوَى الزُّعَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ الْحَاكِمِينَ الَّذِينَ تَفْسُدُ الْأُمَمُ بِفَسَادِهِمْ، وَتَصْلُحُ بِصَلَاحِهِمْ، وَهِيَ حَقَائِقُ فَسَّرَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّنَا لَنَرَى مِصْدَاقَهَا بِأَعْيُنِنَا. وَالَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ لَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ لَا يُفَقِّهُونَ مَا فِيهِ، وَسَنَعُودُ إِلَى ذِكْرِهَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ مِنَ الْبَابِ السَّادِسِ، وَلَابُدَّ مِنَ التَّكْرَارِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ.
فَهَذِهِ التِّسْعُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ تَكْفِي مَنْ تَدَبَّرَهَا عِلْمًا وَعِرْفَانًا، وَهِدَايَةً وَإِرْشَادًا لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِيَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي السُّورَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُسْتَمَدُّ فِيهَا مِنْ سِيرَةِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- وَيُقْتَدَى بِهِمْ فِيهَا، وَجَمِيعُ الْمُكَلَّفِينَ مُطَالَبُونَ مَعَهُمْ بِهَا فَنُشِيرُ إِلَيْهَا تَتِمَّةً لِلْعَدَدِ.
الْعَاشِرَةُ: الْبَيِّنَةُ مِنَ اللهِ تَعَالَى فِي الدِّينِ:
إِنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ وَالْآيَاتِ، يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِيهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَهُوَ خَاتَمُهُمْ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 12: 108 فَبَصِيرَتُهُ صلى الله عليه وسلم مُقْتَبَسَةٌ مِنْ نُورِ الْقُرْآنِ، تَلَقَّاهُ هُوَ مِنْ وَحْيِ اللهِ، وَتَلَقَّيْنَاهُ نَحْنُ مِنْ تَبْلِيغِهِ عَنْ رَبِّهِ وَرَبِّنَا- عَزَّ وَجَلَّ- مُؤَيَّدًا بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مِنْ نُورِهِ، مَنْ يَتَلَقَّى عَقِيدَتَهُ وَعِبَادَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِقْلَالُ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ:
قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رَسُولِهِ نُوحٍ عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [28] فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي بَلَّغَهَا أَوَّلُ الْمُرْسَلِينَ لِقَوْمِهِ، وَمِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِخَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 10: 99 وَمِنْ إِنْزَالِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ إِمْكَانِ الْإِكْرَاهِ فِي عَهْدِ الْقُوَّةِ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} 2: 256 أَنَّ دَعْوَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى تَقُومُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحُجَّةِ، لَا كَمَا فَعَلَ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَلَا تَزَالُ تَفْعَلُ بَعْضُ دُوَلِهِمْ مِنْ نَشْرِ النَّصْرَانِيَّةِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْقُوَّةِ، أَوْ بِالْخِدَاعِ وَالْحِيلَةِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَبَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ، وَقَدْ فَسَّرُوا الْبَصِيرَةَ بِالْحُجَّةِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ اللهِ كَمَا أَمَرَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الِاحْتِسَابُ وَالْإِخْلَاصُ لِلَّهِ فِي الدَّعْوَةِ دُونَ التِّجَارَةِ بِهَا:
تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّ دَعْوَتَهُمْ وَهِدَايَتَهُمْ كَانَتْ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ لِأَقْوَامِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَهُمْ عَلَيْهَا مَالًا وَلَا أَجْرًا، كَمَا رَأَيْتَ فِي الْآيَتَيْنِ 29 و51 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَذَكَّرْنَاكَ بِمِثْلِهِمَا فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى، فَعَلَى كُلِّ دَاعٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي دَعْوَتِهِ وَهِدَايَتِهِ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَبْتَغِي بِهَا مَالًا وَلَا جَاهًا فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ بَذْلِ الْمُسْلِمِينَ الْمَالَ لِمُسَاعَدَةِ الدُّعَاةِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَهُمْ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [5: 2].
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: وِلَايَةُ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَضُعَفَائِهِمْ كَكُبَرَائِهِمْ:
تَقَدَّمَ فِي صِفَاتِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْ أَخَصِّ فَضَائِلِهِمْ، وَاسْتَشْهَدْنَا عَلَيْهَا بِمَا رَدَّ بِهِ نُوحٌ عليه السلام عَلَى أَشْرَافِ قَوْمِهِ إِذْ طَعَنُوا عَلَى أَتْبَاعِهِ وَلَقَّبُوهُمْ بِأَرَاذِلِهِمْ فِي الْآيَاتِ (27- 30) وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَنَاهِيكَ فِي هَذَا الْبَابِ بِسُورَةِ الْأَعْمَى عَبَسَ فَفِيهَا الْعِبْرَةُ الْكُبْرَى لِكُلِّ ذِي بَصَرٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَمِنْ صِفَاتِهِمْ فِي السُّنَّةِ: «الْمُسْلِمُونَ ذِمَّتُهُمْ وَاحِدَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» إِلَخْ، وَأَنَّهُمْ «كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ وَكَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وَبِهَذَا يَكُونُونَ الْآنَ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ أُمَّةً قَوِيَّةً فِي قِتَالِهِمْ وَسِلْمِهِمْ، فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا كَمَا وَصَفَ اللهُ وَرَسُولُهُ؟
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: النَّصِيحَةُ الْعَامَّةُ:
كَانَ الْأَنْبِيَاءُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كُلُّهُمْ نَاصِحِينَ لِأَقْوَامِهِمْ فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِ النُّصْحِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ قَوْلَهُ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} [34] الْآيَةَ، وَفِيهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ لِقَوْمِهِ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [7: 62] وَفِي قِصَّةِ هُودٍ مِنْهَا {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [7: 68] وَفِي قِصَّةِ صَالِحٍ مِنْهَا: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [7: 79] وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْهَا: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [7: 93] وَقَالَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَهَلْ مُسْلِمُو عَصْرِنَا عَلَى هَذَا الدِّينِ، دِينِ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ؟!.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ وَحُدُودُ السَّعْيِ لِخَيْرِهِمْ:
مَحَبَّةُ الْأَوْلَادِ فَضِيلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الْفِطْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، بَلِ الْغَرِيزَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَحُقُوقُهُمْ عَلَى الْوَالِدَيْنِ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ بِمَا يُحَدِّدُ دَوَاعِي الْغَرِيزَةِ وَالطَّبْعِ، وَيَقِفُ بِهَا دُونَ الْغُلُوِّ الْمُفْضِي إِلَى عِصْيَانِ اللهِ تَعَالَى أَوْ هَضْمِ حُقُوقِ عِبَادِهِ، وَفِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِيهِ إِرْشَادٌ وَهَدْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ، فَهَلْ هُمْ مُتَّبِعُونَ؟
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إِكْرَامُ الضَّيْفِ وَحِفْظُ كَرَامَتِهِ:
فِي خَبَرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ الْمُبَشِّرِينَ لَهُ بِإِسْحَاقَ وَعِنَايَتِهِ بِضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ فِي قِصَّةِ لُوطٍ مَعَهُمْ وَشَدَّةِ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِهِمْ مِنْ شَرِّ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ جَاءُوا لِتَعْذِيبِهِمْ- خَيْرُ أُسْوَةٍ فِي فَضِيلَةِ إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَتَكْرِيمِهِ، وَقَالَ نَبِيُّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» وَقَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ وَالِائْتِمَارُ وَالِانْتِهَاءُ عَلَى مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ:
هَذِهِ فَضِيلَةٌ هِيَ فَرِيضَةٌ ثَابِتَةٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ تُؤَيِّدُهَا بَدَاهَةُ الْعَقْلِ، وَهِيَ شَرْطٌ طَبِيعِيٌّ لِقَبُولِ الْعِلْمِ وَالْإِرْشَادِ مِنَ الْقَائِمَيْنِ بِهِ، وَرُسُلُ اللهِ تَعَالَى أَئِمَّةُ الْهُدَى فِيهَا، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهَا قَوْلُ شُعَيْبٍ عليه السلام لِقَوْمِهِ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [88] وَإِنَّهَا لَعِبَارَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مَوْضُوعِهَا فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا، وَمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا، كَأَوَّلِ سُورَةِ الصَّفِّ، وَآيَةُ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [2: 44] إِلَخْ. وَانْظُرْ أَيْنَ تَجِدُ عُلَمَاءَ عَصْرِنَا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ؟
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْإِصْلَاحُ الْعَامُّ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ:
مَا شَرَعَ اللهُ الدِّينَ لِلْبَشَرِ إِلَّا لِيَكُونُوا صَالِحِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ مُصْلِحِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ شُعَيْبٌ عليه السلام بِصِيغَةِ الْحَصْرِ فِي الْآيَةِ (88) وَهِيَ.- {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}- وَهُوَ أَبْلَغُ الْبَيَانِ وَأَعَمُّهُ وَأَتَمُّهُ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِقَامَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الْفَضَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ:
قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [112] وَأَهَمُّهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَمِنْ شَوَاهِدِهَا هُنَا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} 114 وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي بَحْثِ التَّوْحِيدِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ، وَفِي صِفَاتِ الرُّسُلِ مِنْ آخِرِ الْبَابِ الثَّالِثِ.